قصص واقعية

شبح السّحور !


2

(من أحداث واقعية !)

   أعود بذاكرتي إلى رمضان المبارك، إذ قرع خاطري حادث غريب مررت به في إحدى لياليه الرائعة بأروقة الحي الجامعي.. فأحببت أن أسجله هنا. فلتعيروني أسماعكم..

   كان يوما آخرا.. يوما عاديا من أيام رمضان الكريم. هذا الشهر الذي تكاد تلمس فيه تغيرا في كل شيء حولك.. الأشخاص، الجو، الأوقات.. حتى أنفاسك يشوبها شيء من الهدوء والسكينة، وطبعا لن نتحدث عن الجرائم التي يرتكبها مدمني التدخين !

   كان يوما آخرا.. حيث يسود الصمت بالغرفة و قد استلقيتُ فوق سريري أطالع القرآن أو أرمق السقف، وصديقي يفعل الشيء ذاته.. قد ألجم الظمأ أفواهنا وأزال الجوع منا أية رغبة في الحديث و الثرثرة..

   يمزق آذان المغرب صمتنا المرتقب – على حين غرة – لنقفز من أسرّتنا بنشاط عجيب.. فأسارع إلى اختطاف ثمرة يكون طعمها في فمي أحلى من العسل وألذ من ألذ ما لذ وطاب من الطعام والشراب !..

   وكان فطورا آخرا.. كأي فطور محترم، إذ يمكنك ملاحظة الشراهة المطلقة في الأكل ومدى العنف الذي نمارسه على المأكولات المسكينة !.. فلا تعجب مثلا إن رأيتني أبتلع الثمر عن طريق أنفي !!.. ولا تفزع إن استقرت عيناك على صاحبي وهو يحمل كوب عصير برجله اليـُسرى !

   وكان عشاءا آخرا.. ضئيلا، هزيلا ونحيلا ! ومع ذلك نصرّ على تسميته عشاءا ونفتخر به أيما افتخار والحمد لله. إلا أني لن أبوح بمكوناته كي لا أفضي بالسر إلى كل طالب فيستفيد من الأساليب المتطورة التي ننهجها كي نعد أسرع عشاء مع أكبر كم ممكن !.. لذا لا تنتظروا الكثير..

   وكانت حالة أخرى من السكر تصيبني بعد العشاء مباشرة ، كعهدي في شهر رمضان.. فأسترسل في الضحك الهستيري والكلام بصوت مرتفع مدة لا بأس بها، حتى يتمنى كل من يسكن غرفة بجواري أن يخرسني الموت !

   نفس البروتوكولات المملة أتخذها قبل النوم.. وضع جهاز الراديو قرب رأسي، إغلاق الباب بالمفتاح، ترتيب سريري المبعثر، تبادل كلمات تافهة مع صديقي “السكران” هو الآخر ، ثم.. القفز رأسيا فوق السرير، على غرار السباحين في الأولمبياد حين يقفزون من علٍ نحو حوض الماء !

* * *

   أنظرُ إلى السماء البنفسجية وأفتح فمي لتخرج منه عصافير وأرانب تردد أغاني جميلة.. غير مفهومة ولكنها جميلة و.. ماذا ؟؟.. سماء بنفسجية ؟!.. عصافير تخرج من فمي ؟؟.. يبدو هذا غريبا ومجنونا ولكن.. لماذا لا أعجب منه و لا أبالي بصحته ؟.. لماذا أقف فاغرا فمي، مركزا نظري إلى السماء بكل هذا الهدوء والاطمئنان ؟

   فجأة.. يمتزج صوت الغناء مع صوت آخر غير متناسق مع القطعة.. تخفتُ الموسيقى رويدا رويدا ويعلو ذلك الصوت المزعج أكثر فأكثر.. ولكن من أين يأتي ؟.. ربما مصدره السماء، فقد بدأ لونها يتبدل مع ازدياد الصوت ليصبح مخيفا، مريعا ثم..

   فتحت عيني بسرعة لأجدني على الفراش أنظر إلى النافدة المضاءة بوهج القمر وقد لفّ الجدران ظلام حالك.. لا شيء كان يُسمع وقتها غير صوت عقارب الساعة والزفير الرتيب لصديقي النائم..

   كنت أحلم إذن !.. تبا ! أكره هذه الأحلام المجنونة التي تراودني من حين لآخر إنّ..

   (طااااق.. طاااق.. طاق)

   انتفضت في ذعر عند سماعي طرقا عنيفا على الباب !

   (طااااق.. طاااق.. طاق)

   لحظة !.. إنه نفس الصوت المزعج الذي سمعته بالحلم ؟!.. إذن فالطرق كان منذ مدة !

   (طااااق.. طاااق.. طاق)

   وقمت بالحركة الغريزية المناسبة لمثل هذا الموقف.. التفت بسرعة إلى مكتبي الغارق في الظلام، لأرى في شاشة الساعة المتوهجة الثالثة والنصف بعد منتصف الليل !!

   وقبل أن أسأل نفسي عن هوية هذا الضيف المحترم الذي اختار أنسب وقت على الإطلاق كي يشرفني بزيارته.. دار مقبض الباب بعنف، لينخلع قلبي رعبا !

   صدقني، الموقف أخطر مما تتصور !.. ولن يمثله عقلك كما يجب إلا عندما تُقتلع من حلم مجنون.. لتجد أصوات طرق عنيف على بابك وعقارب الساعة تتحرك ببطء مرعب لتخبرك أنها الثالثة والنصف بعد منتصف الليل !.. ثم أخيرا، هناك من يحاول – بجنون – اقتلاع الباب من مكانه !!

   (طااااق.. طاااق.. طاق)

   لا أعرف كيف نهضت و قد دارت بي الأرض و ماجت و انقلب سافلها عاليها ؟.. تقدمت بخطوات مبعثرة نحو الباب الخشبي الأخضر.. توقف الطرق عندما اقتربت من الباب.. لا داعي لأن أقول أني وقفت مترددا، حيرانا، مفزوعا، مصعوقا مدة طالت حتى أصبحتُ تمثالا عتيقا لشاب من عصر الأنوار يرتدي منامة و ينظر برعب لشيء أمامه !.. كانت مدة مديدة لدرجة أني خفت بعدها أن أسمع صوت الطرقات مجددا فمددت يدا مرتجفة إلى المفتاح المعلق بعين الباب، و هو يلمع لمعانا مستفزا.. أدرته مرتان ثم استقرت يدي المتوترة على المقبض البارد وفتحت الباب..

   … ! !

   – أووووف.. أرعبتني يا هذا !.. ألا تستطيع أن تكون حضاريا قليلا ؟

   إنه (سفيان) جاري بالغرفة الثالثة على اليسار..

   – هل أنتم نيام أم أموات أم مومياوات محنطة ؟؟.. نصف ساعة وأنا أطرق الباب وأحرك المقبض عسى أن يسمعني كائن حي بالغرفة و لكن.. لا حياة لمن تنادي !

   – هذا رائع !.. أشكر لك محاولتك الإنسانية لإيقاظي من النوم مع الثالثة والنصف ليلا !.. لكن هل لي أن أعرف السبب ؟

   – السحور يا ذكي ألا تريد أن تصوم غدا ؟

   – آآآه !.. قلها من البداية يا أحمق !

   ثم انصرف.. رأيته يمشي بخطوات سريعة في الرواق نصف المضاء، كان يقصد الحمام..

   حينئذ.. وحينئذ فقط، شعرت بامتلاء مثانتي ! وكيف لي أن أشعر بها قبل ذلك وقد عشت قصة رعب رائعة !

   توجهت بدوري إلى الحمام.. كان الجو رطبا باردا اقشعر له جلدي.. رأيت (سُفيان) يلج الحمام. كم هو سريع ! أيمشي أم يركض ؟

   الغريب أنه لم يُضئ الحمام عند دخوله.. وكيف يرى باب المرحاض وسط كل هذا الظلام ؟؟

   دخلت الحمام، وهالني حجم الظلام !

   صوت قطرات صنبور يمزق ذلك الصمت البارد..

   نسيت تماما السبب الإنساني لقدومي هنا، وتجاهلت الفزع الذي بدأ يتضخم بأحشائي ثم ناديت بصوت متحشرج:

   – سُفيااان ؟!

   …

   – أخبرني أنك هنا وسط الظلام، تتبول بكل هدوء.. لأخبرك أنك شبح !

   تزلزل كياني وتملكتني رجفة من أخمص قدمي حتى شعيرات رأسي !.. ماذا قلت للتو ؟ شبح !.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اللهم إني أعوذ بك من الخُبث والخبائث..

   والجميل أن (سفيان) لم يجبني حتى الآن !.. فكان قراري الحكيم هو.. الفرار إلى غرفتي الحبيبة !

   مشيتُ، بل هرولتُ.. بل قل جريتُ جريا في الرواق البارد والذي وجدته أطول من اللازم !.. أعدّ نبضات قلبي في انتظار الوصول أمام باب غرفتي..

   حين اقتربتُ، توقفتُ وأنفاسي مبهورة، متلاحقة.. أنا الآن أمام غرفة (سفيان).. لا أرى ضوءا من خلال فتحة الباب العلوية !

   بقيت للحظات ساكنا أمام الباب قبل أمدّ كفي الأيمن وقد سيطرت عليه رجفة باردة.. أدرت المقبض مرات ومرات و كأني لا أريد تصديق أن الباب مغلق !.. وكأني لا أريد التفكير في كون ((سفيان)) نائم الآن بسلام على سريره الدافئ !

   كيف يغلق الباب بالمفتاح في هذا الوقت المتأخر وقد خرج لإيقاظي فقط ؟ وبابي على بعد خطوات قليلة منه؟ ولماذا لم يترك الغرفة مضاءة ؟.. أليس من المفترض أن يوقظ صديقه أولا ؟!

   نفذت طاقة أعصابي على تحمل المزيد في هذه اللحظات وقد تغلبت عليّ خواطر مُهولة ! 

   حثثتُ الخطى نحو غرفتي في آخر الرواق.. اقتحمتها بعنف وصفقتُ الباب بهُياج !

   أغلقتُ الباب بإحكام قبل أن أنهار على فراشي البارد ولُهاثي يزيدني رُعبا على رعب..

   عجز عقلي للحظات عن العمل، وكلما حاول.. باء بالفشل..

   ثم اجتاحت خاطري المرتعش – بغتة – فكرة ما !.. ماذا لو كان ذلك كله جزئا من الحلم ولم أستيقظ بعد ؟.. لسعتُ ظهر كفي بقوة حتى تأوهت من الألم ! ففهمت الحقيقة التي لابد من فهمها.. فهمتُ آسفا أن ما قد كان آنفا قد كان فعلا !

   نهضت مترنحا وتوجهت إلى مكتبي المغمور في الظلام، تناولتُ قلما أحمرا من كأس الأقلام.. وكتبت على ورقة جملا وعبارات مقتضبة.. لخصت فيها ما عشته قبل لحظات..

    ثم عدتُ إلى الفراش وأقسمت فورا أن أغمض عيني وأنسى كل ما شاهدته وسمعته.. أعوذ بالله من كل شيطان غرور أو شبح سُحور !..

    

تمت بحمد الله

2007

(( ولكي أُتمّ الواقعة كما حدثت بالفعل أقول: قد اكتشفتُ بعدها أن مسألة ذهاب “سفيان” إلى الحمام كانت من تأليف خيالي الثمل بالنعاس ! إذ ذهبتُ وحدي للحمام و خفتُ وحدي و هربتُ وحدي !.. أما عن غرفة “سفيان” المغلقة ، فقد أكد لي أنه عاد ليدخل إلى غرفته. فربما عاد للنوم ، أو كان يأكل على ضوء المصباح الصغير المعلق فوق المكتب ، فلم أر نورا تحت الباب.. المهم ، أن الغطاء انكشف عن اللغز.. وكل ما كنت أخشاه هو أن ينكر “سفيان” قدومه عندي أصلا.. حينئذ ستكون مشكلة ! ))   

6 رأي حول “شبح السّحور !”

  1. رفعتْ و أهوال قصصه !
    جميلة و محبوكة

    إلا أنّه فكرة الشياطين غير مُقنعة
    إن الله سبحانه يجعل تحت الأصفاد كلّ شيطان رجيم طيلة رمضان الكريم
    هذا لا يمنع من الإستعاذ بالله منهم

    بارك الله فيك
    ملثم إبراهيم

    Liked by 1 person

    1. ههه بارك الله فيك أيها الملثّم..
      في الحديث المعروف أن ما يصفد في رمضان هم (مردة) الشياطين وليس صغارهم.. نعوذ بالله من شر ما خلق
      كان كل تفكيري حينها في قصص الرعب وأساطيره لذلك كنت مفرط الحساسية لهذه الأمور ^^
      أشكرك إبراهيم

      إعجاب

  2. رائعة اخفتني فعلا ، ذكرتني بقصة تشبهها وقعت لي في الجامعة ، جميل للغاية أسلوبك المرح هنا ^^

    إعجاب

أضف تعليقا