الشهر: نوفمبر 2013
تبا لمشاعرك !
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمدلله والصلاة والسلام على محمد عبد الله ورسوله. أما بعد..
ننسى في كثير من الأحيان الطريقة التي نتكلم بها ونلتفتُ فقط للمعنى والرسالة التي نريدُ إيصالها، فنغفل بذلك عن مشاعر الآخر، ونكاد ننسى أنه بشرٌ مثلنا من لحم ودم وذكريات وضعف وعقل محدود..
(وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم) الإسراء، 53.
إنك قد تجرح أحدهم بعينيك فقط دونما حركة من جوارحك، ناهيك عن الكلام الذي يذهب في الإذاية والجرح أبعد من ذلكم بكثير.. حتى أنه قد ورد في السنة النهي عن تناول حبتين أو أكثر من طعام تأكله مع أخيك حتى تستأذن منه، تخيل ؟
هذا، ومعروف قدر الابتسام في الوجوه ومخالطة الناس بالخلق الحسن وكف الأذى عنهم وعدم الكلام في غيبتهم بما يكرهون وغير ذلك مما وصى به ديننا القيّم..
لكن الناس لا يفعلون عُشرُ معشار هذا، ولسانُ حالهم يقول: (تبا لمشاعرك).. وقد جرّبتُ من قبل ما يُشبه الذي أقول، بل كان ما جرّبتُ سببا لتغيّر نظرتي للحياة والناس تماما.. فلانٌ يعرف حاجتك بعد أن حدثته عنها واثقا مستأمنا إياه، ظانا فيه سلامة الصدر والخلق، بل حتى المنهج والعقيدة.. ثم ينتهز فرصة غيابك أو عجزك لينقض عليها لاهثا كالـ… وإذا اعترضَ أحدٌ بعدها يقول هذا جائز، هذا حلال.. وأين من استأمنك ووثق بك يا رجل ؟..تبا له ولمشاعره.. هكذا.
ولو فٌعل معه هو أدنى من ذلك لأريته يشكي ويبكي ويدعو ويملأ الدنيا صُراخا ويشرح لك كم أن الناس ذئاب وأنهم لا أمان لهم وأن علينا أن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا.. وهل فعل هو ؟ هل عمل حسابا لإخوانه هو ؟ هل فكر فيهم لثانية ؟ أم هو حظ النفس وجشعها.. ألا عار عليكَ أن تأتي الفعل وتنهى عنه، عارُ عليك ذلك عظيمُ !
فما أحوجنا إلى الإنصاف وأن نُعامل إخواننا بما نحبّ أن نُعامل به، فنتخيلنا أحيانا مكانهم.. حتى لا نبخسهم حقوقهم ولا نؤذي خواطرهم، بل نخدمهم جهد ما في طاقتنا ونعين المحتاج منهم، حتى إن دعى ذلك إلى تأخير حظوظنا.. وكل ذلك في الله وتقربا إليه..
ما أحوجنا إلى حفظ الأمانات والأسرار وستر العيوب والأخبار والاستماع لهموم الناس ومواساتهم وتذكيرهم بكلام الله وسنة نبيه وتصبيرهم.. وهذا من العون، كما أمر ربنا (وتواصوا بالصبر).. فإن أقربنا مجلسا من النبي عليه صلوات الله وسلامه أحسننا أخلاقا كما تعلمون..
ومع ذلك فليحذر الواحد منا شياطين الإنس وليحفظ سره وليكتم حوائجه فإن – والله – في الناس من نفوسهم ذئبية، يبتسم لك ويهشّ ويبشّ، ويلين القول، بعد أن شمّ عندك بعض ما يريد.. فلا تحسبنّ الآخرين لا يجرؤون على فعلٍ لا تجرؤ أنت عليه، ولا تحسبنّ لهم نفس مقدار حياءك ومروءتك..
إنما أحسِن ابتغاء وجه ربك ولا تنتظر جزاء من أحد ولا شُكورا، أحسن وانس، أحسن وامضِ.. ودعك ممن يقول (لا تفعل خيرا، لا يحدث بأس) فهذه دعوة لوقف عمل الخير وذلك مُعارضٌ لما أُمرنا به.. بل نفعل الخير، والعوض من الله.. والأجر منتظر منه عزّ وجل، وهو المستعان على كل حال.
22-11-2013
نزوات عابرة
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله والصلاة والسلام على محمد عبد الله ورسوله. أما بعد..
كم نزوة تعترض سبيلنا في اليوم والليلة.. إنها العشرات، بله المئات.. اشتر كذا.. افعل كذا، اسمع كذا، انظر لكذا، تخيل لو حدث كذا.. الخ. ومع كل نزوة نتوقف ونفكر فيما عُرض علينا، ونُقلبه تقليبا، وقد نُصمّم على فعل ذلك الأمر وهو خاطئ مخالف، فكيف ذلك ؟
وأحيانا يكفي أن نتناسى نزوة ما لدقائق معدودة، أو ننشغل عنها قليلا فتذهب حرارتها، وكأنها لم تكن من قبل، وكأنها دُخان رفيع شطح أمام ناظريك لبرهة ثم تلاشى.. كبائع متجول عرض عليك سلعته ثم لم يجد عندك نشاطا لاقتنائها فانصرف بصمت..
هنا تتجلى عظمة الصبر ونجاعته، فالحرج لا يدوم، والشدة إلى زوال.. يكفي إذا أن تصبر تلك الدقائق أو الساعات، أو أكثر من ذلك أو أقل.. لتجد نفسك على اليابسة من جديد وقد خُضت قبل قليل بحرا متلاطمة أمواجه، مزمجرة رياحه..
وهنا أيضا يتجلى جزع الإنسان وضعفه وعجلته المضحكة أحيانا.. فهو يريد لو يحصل على كل شيء اليوم قبل الغد، وتأخر حصول الشيء عنده ضياع وحرمان وفقر وكارثة وسوء حظ وقنبلة دمار شامل !.. وقد أُخبرتُ العام المنصرم عن شاب انتحر بعد شجار مع أهله حول شراء حذاء رياضي !!.. فاللهم احفظ علينا عقولنا..
المطلوب إذا يا نفسي ويا إخواني هو الصبر، وذكر الله كثيرا مع التعوذ به من شر أنفسنا وشر المخلوقات حولنا من الإنس والجن. أما إن نفذنا كل ما تُمليه علينا قرائحنا في تلك اللحظات الضيقة اللاهثة فلن نُحصّل في النهاية إلا ندما يُقطع نياط القلوب وحزنا يكاد يذهب بالمهج وخزيا مؤلما حارقا وفضيحة بين الناس وعارا، ثم شماتة الأعداء فينا وقد نصلى بعدها نارا.. نسأل الله الستر والعافية.
فليكن هذا منا دائما على ذُكر.. ليس ما نجده من تلك الوساوس إلا نزوات عابرة، سحب صيف وتنقشع، حالات اضطراب موسمية، سموها كما يحلو لكم.. إنما ينبغي أن نترفع عنها ونصبر أنفسنا مع الحق وأهله ونتعوّد على النبل وأخلاق الرجال ذووا الشرف والشهامة، وإياكم وإياي أن نتورط مع أهل المهانة والخيانة والبذاءة والنذالة.. والله يرعانا ويعصمنا أجمعين، وآخر كلامي أن الحمد لله رب العالمين.
رفعت خالد المزوضي
21-11-2013
شبح السّحور !
(من أحداث واقعية !)
أعود بذاكرتي إلى رمضان المبارك، إذ قرع خاطري حادث غريب مررت به في إحدى لياليه الرائعة بأروقة الحي الجامعي.. فأحببت أن أسجله هنا. فلتعيروني أسماعكم..
كان يوما آخرا.. يوما عاديا من أيام رمضان الكريم. هذا الشهر الذي تكاد تلمس فيه تغيرا في كل شيء حولك.. الأشخاص، الجو، الأوقات.. حتى أنفاسك يشوبها شيء من الهدوء والسكينة، وطبعا لن نتحدث عن الجرائم التي يرتكبها مدمني التدخين !
كان يوما آخرا.. حيث يسود الصمت بالغرفة و قد استلقيتُ فوق سريري أطالع القرآن أو أرمق السقف، وصديقي يفعل الشيء ذاته.. قد ألجم الظمأ أفواهنا وأزال الجوع منا أية رغبة في الحديث و الثرثرة..
يمزق آذان المغرب صمتنا المرتقب – على حين غرة – لنقفز من أسرّتنا بنشاط عجيب.. فأسارع إلى اختطاف ثمرة يكون طعمها في فمي أحلى من العسل وألذ من ألذ ما لذ وطاب من الطعام والشراب !..
المنزل رقم 12
انبسطت تحت أشعة الشمس رُقعة مترامية الأطراف من منازل متناسقة البنيان ، زاهية الألوان ، تحوطها أشجار الأرز الباسقة و جبال خضراء شامخة..
و لعل الرّائي من عل سوف يرى انشطار الرقعة إلى شطرين و انقسامها إلى قسمين متباينين. قسم من البنايات الحديثة ، و الذي يُطلق عليه اسم “المدينة الجديدة” و هو الأوسع نطاقا و الأكثر انتشارا حيث يحتل ثلثي المساحة تقريبا. و قسم ثانٍ تظهر معالم القدم على منازله و مساجده و أسواقه الفسيحة ، وهو ما يشكّل “المدينة القديمة”.
هذه الرقعة هي مدينة (فاس). العاصمة الثقافية و التراثية للمغرب ، فما أجمل أبوابها المزخرفة وما ألذّ لكنة سكانها السلسة وما أبهى ذلك الشعور بالانتماء الذي يتملّكك و أنت تتجول بأزقتها الشعبية..
* * *
المدينة القديمة ، حي “الحنصالي”.. فضاء شعبي يموج بالحياة و يعُجّ بالحركة.. متشابهة منازله ، متقاربة أبوابه.
صبيان يركضون بخفة أمامك ثم سرعان ما يختفون بأول انحراف فلا يبقى سوى صدى ضحكاتهم تتقاذفه الجدران.. ثم تمر في الطرف الآخر من الزقاق ثلة من نساء محجبات يمشين بتؤدة و استحياء و يحملن أكياسا على رؤوسهنّ بطريقة فيها من البراعة و الحذاقة الشيء الكثير.
وشديد الانتباه لن تفوته ملاحظة منزل معزول في آخر الحي. جدرانه متآكلة ، زجاج نوافذه مكسور ! و أكثر ما يشدّ الانتباه هو بابه الضخم العتيق ، و قد عُلّقت فوقه قطعة خشبية مائلة ، مكتوب عليها بخط قديم (رقم 12).
الجمجمة
شتاء ولكن.. !
فهمتُ بعد نصف ساعة من الضجيج أن شيئا ما ينقر زجاج نافذتي..
اعتدلتُ على السرير أفرك عينيّ بعنف كأني أدخلهما بعدما خرجتا من المحجرين !
ما هذا ؟.. مطر ؟.. نعم إنها قطرات المطر الحبيب.. شكرا على إيقاظي، هذا لطف كبير.. لكنه الأحد، وكنتُ أمنّي نفسي بنوم دافئ بعد صلاة الفجر، لكن.. خير
طق طق طق..
حملتُ إبريق القهوة بعد أن أطفأت الموقد بحركة سريعة.. وتوجهتُ بخطوات مرحة إلى الثلاجة لأخرج.. الجبن والمربى والبيض والزيتون الأسود وأشياء غريبة أخرى..
أغلقت الثلاجة بقدمي لأن يديّ مشغولتان.. عجيب أمر هذه الثلاجة.. تحتكر وحدها فصل شتاء أبدي..
طق طق طق..
رعب الموت !
العنوان هذه المرة واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، بل هو أوضح مما سأقول.
الموت.
أول ما يذهب إليه تفكيري في كل مرة يخطر الموت ببالي هي كلمة “النهاية” التي تظهر وسط الشاشة في الأفلام الكلاسيكية. وحين تظهر فذلك يعني أن الستار سيُسدل والضوء سيُطفأ وأن عليك أن تغادر مكانك حالا ولا داعي لبقائك متسمرا في شوق.
رعب الخواتيم !
إن من الأمور المخيفة فعلا، أمر النهاية وكيف تكون !.. لاسيما عندما تسمع الحديث الشريف الذي يبث الخوف في قلب كل مؤمن، والذي مفاده أن الرجل قد يعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة حتى إذا دنا أجله عمل بعمل أهل النار فدخلها، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار حتى إذا شارف على الرحيل عمل بعمل أهل الجنة فدخلها !
وجاءت العبارة التي تخفف بعض الرعب في حديث آخر له نفس السياق، والحمد لله، وهي «فيما يبدو للناس» أي أن الرجل يعمل عمل أهل الجنة أو عمل الغاوين فيما يبدو للناس فقط !
ولكن الخوف لا يزال قائما.. والخطر يظل متربصا، فلا أحد يملك لنفسه تزكية وليس أحدا يحكم قلبه أبدا.. والنهاية هي الخاتم الذي يتوج الورقة وعليه تكون النتيجة، وتلك هي اللحظة التي تنجلي فيها الحقيقة، مُسفرة عن نفسها.. فتُفتح أفواه وتحُبس أنفاس وتُصعق قلوب.. وليس ذلك بعزيز إلا على صاحب الورقة !
فكيف ستكون خاتمتك ؟
اللهم سلّم سلّم..
26-07-2010